إعداد / د. المحامي هيثم عزُّو :
هل إنَّ المصرف الذي لا يرد -رغمَ انذاره- الوديعة لصاحبها بالحالة التي استلمها مقداراً وصنفاً ونوعاً، يكون مرتكباً لجريمة إساءة الأمانة!
الجواب: نعم… وبخلاف رأي السواد الأعظم من المتخصصين في القانون الجزائي الذي يلتبس عليهم الأمر في هذا الصَدد بالاستناد الى احكام نص قانوني، في الوقت الواجب فيه منطقًا مواءمة ومضاهاة النصوص القانونية بعضها ببعض، متى ما كانت تنصب على ذات المسألة!
لماذا؟!
بكل بساطة، انَّ الذين ينفون جُرمِيَّة فعل امتناع المصرف عن رد الوديعة يتسلَّحون بأحكام المادة ٣٠٧ من قانون التجارة التي تنص على أنَّ المال المُسلَّم للمصرف يصبح ملكاً له بمجرد التسليم وبالتالي لا يمكن ملاحقة المالك بإساءة أمانة ملكهِ، كما تراءى لهم!
رُويداً، وتعالوا نحلِّل بصورة بسيطة ولكن عميقة ودقيقة هذه المادة القانونية السالفة الذِكر، كي يتبيَّن الخيط الابيض من الخيط الاسود ونبني على ضوء ذلكَ النتيجة المناسبة قانوناً!
انَّ المادة المذكورة تنصّ على ما حَرفيَّتهُ: “إنَّ المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة (مبلغاً من النقود) يُصبِح (مالكاً له) ويجب عليه أن (يردَّه بقيمة تعادله)…
وعليه،
أولاً- انَّ المادة المشار اليها ولِئَن كانَ صحيحاً أنها نصَّت على انتقال ملكية المال المُسلَّم منَ المودع الى المصرف، الاَّ انَّهُ من الصحيح أيضاً أنَّ ما تملَكه المصرف -بحسب هذا النص القانوني- هو فقط (المال المِثلي) موضوع الوديعة المُسلَّم اليه (وليس الوديعة بحدِّ ذاتها) التي تبقى حتماً وحُكماً مُلكاً للمودع وبدليل إشارة النص القانوني عيّنهُ على موجب المصرف برد الى المودع ما أخذه من نقود منهُ بقيمة تعادلها ولاسيما أنَّ القول بغير ذلك يعني أنَّ المودع أصبح بدون مُسَوَّغٍ مشروع بلا أيَّة ملكية ويعني أيضاً في المقابل تحقيق المصرف اثراءً بلا سبب على حساب المودع وهو ما لا يستقيم عِلماً وقانوناً.
ولهذا، فإنَّ المصرف ملزَم برد المال المُسلَّم اليه على سبيل الوديعة في الاجل المتفق عليه عقداً والاَّ في أي وقت في حال عدم الاتفاق على اجلٍ محدد سنداً لأحكام المادة ٧٠٣ من قانون الموجبات وعقود .
٢- انَّ المال المُسلَّم من المودع للمصرف يوصف قانوناً بأنّهُ مال منقول مِثلي، كما أنَّ عقد الوديعة المبرم بينهما يندرج تحتَ مِظلَّة عقود الأمانة بحسب قانون الجرائم والعقوبات اذ تنص المادة ٦٧٠ منهُ على ما حَرفيَّته:” كل من أقدم قصداً على كتم أو اختلاس او تبديد…شيء (منقول) سُلِّم اليه (على وجه الوديعة….أو على سبيل عارية الاستعمال)…شرط أن (يعيده)…يعاقَب بالحبس من شهرين الى سنتين وبغرامة تراوح بين ربع قيمة الردود والعطل والضرر وبين نصفها على ان لا تنقص عن خمسين الف ليرة”؛ وكذلك، تنص المادة ٦٧١ منه أيضاً :”كل من تصرَّفَ (بمبلغٍ منَ المال) أو باشياء أخرى من المثليات سُلِّمت اليه لعمل معين وهو يعلم أو كان يجب أن يعلم انه لا يمكنه اعادة مثلها (ولم يبرىء ذمته رغم الانذار), يعاقَب بالحبس حتى سنة وبالغرامة حتى ربع قيمة الردود والعطل والضرر على ان لا تنقص الغرامة عن خمسين الف ليرة”.
وعليه، إنَّ تخلّف المصرف رغم الانذار عن رد الوديعة لمالكها في الأجل المضروب بذات الحالة التي كانت عليها بما يُضارِعُها صنفاً وصفةً ونوعاً ومقداراً، يُعتبَر فعلهُ مُؤَلِّفاً لجريمة خيانة المال والذي اؤتُمِنَ المصرف عليه حينَ تسليمهُ لهُ لغاية معيّنة ولأجلٍ زمني مضروب!
وغوصاً في فلسفة القانون، يقتضي معرفة السبب الذي جعلَ المشترع ينص في قانون التجارة على انَّ المصرف يصبح مالكاً للنقود المُسلَّمة اليه من المودع، في الوقت الذي هو فيه غير مالك قَط للوديعة ومُلزَماً بالرد؟!
اذا عُرِفَ السبب بطُلَ العجَب، وإنَّ السبب في ذلكَ يكمن في انَّ الوديعة النقدية التي يؤذَن فيها للوديع المصرف استعمالها توصف قانوناً في هذه الحالة بعارية الاستهلاك والتي يستلم بمقتضاها شخص من آخر نقوداً يلتزم بردها في الأجل المتفق عليه مقداراً يماثلها صفةً ونوعاً وذلكَ سنداً للمادة ٦٩١ من قانون الموجبات والعقود والمعطوفة على المادة ٧٥٤ من ذات القانون والمعطوفة بدورها على احكام المادتين ٧٥٤ و٧٥٥، وهو ما ينطبق على الوديعة النقدية باعتبار انَّ النقود المُسلَّمة للمصرف من المودع يتم استهلاكها باستعمالهِ لها في أنشطته التجارية مع الغير وبالتالي يستحيل عليه (اعادتها بالذات) نتيجة التصرف بها في هذه الحالة ولكن شريطة اعادة ما يماثلها قيمةً نوعية بحسب ذات النص القانوني
ولهذا السبب وفي ظل الزام المادة ٦٩٠ من قانون الموجبات والعقود الوديع حفظ الوديعة وردها بذاتها، جاءَ القانون التجاري ليحمي المصرف من جرم اساءة الأمانة في حال عدم رد للمودع (ذات النقود عيّنِها) المُسلَّمة سابقًا منهُ إليه، باعتبار انه يوجد في حالة الوديعة النقدية المصرفية إستحالة الحفظ الذاتي للنقود موضوع الوديعة وهي إستحالة ناتجة عن طبيعة عمل المصرف الذي يتلقى ودائع من الجمهور ويقوم باستهلاكها على الفور عبرَ توظيفها بالقروض وغيرها من أنشطته الاستثمارية؛ بيدَ أنَّ ذلكَ لا يعني اطلاقاً -وهنا بيت القصيد- انَّ الحماية القانونية المكرّسة للمصرف من اية ملاحقة جزائية بإساءة الامانة في حال عدم رد ذات النقود المسلَّمة اليه لكونه تملَّكها بقوة القانون بنص المادة ٣٠٧ المشار اليه، انها حماية مستمرة أيضاً في حال عدم رد ما يماثلها في أجل استحقاقها وذلكَ بكونه مُلزم بِرَد ما (اتُمِنَ عليه من قيمة مالية) يقتضي إعادتها لمالكها المودع بنقود مماثلة تماماً للنقود المُسلَّمة اليه التي تم تمليكه اياها والذي تعهدَ والتزمَ باحترام أمانتها برد مِثلها…
لذلك،،،
ندعو المودعين بالشروع الفوري في ارسال انذارات خطية للمصارف عبر اللبيان بوست او كتّاب العدل ومطالبتهم صراحةً فيها برد الوديعة فوراً تحت طائلة ملاحقة قضائياً المصرف كشخص معنوي ورئيس وأعضاء مجلس ادارته بالتكافل والتضامن فيما بينهم بجريمة خيانة الأمانة المعاقب عليها بالحبس والغرامة معاً.
* عضو الدائرة القانونية لمجموعة الشعب يريد إصلاح النظام
+ لا توجد تعليقات
أضف لك