مصير الليرة اللبنانية.. واسباب تدهور قيمتها

0 مدة القراءة

بقلم/ الدكتور مروان القطب*:

يعتمد لبنان، منذ العام ١٩٩٧، على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية على الدولار الاميركي عند حدود 1515 ليرة لبنانية للدولار الواحد. وتقوم سياسة التثبيت على تدخل مصرف لبنان في سوق القطع بائعا او شاريا للدولار، واداته الاساسية الاحتياط المكون لديه من العملات الاجنبية.

وعندما يرتفع عرض الدولار في الاقتصاد اللبناني يؤدي ذلك الى تعزيز قيمة الليرة، وبالعكس فان ارتفاع الطلب على الدولار يؤدي الى الضغط على قيمة الليرة، ويحمل البنك المركزي على التدخل مستعملا الاحتياطي بالعملة الاجنبية المتوفر لديه لتثبيت سعر الصرف.

وفي الاصل فان ما يحدد سعر الصرف هو التدفقات النقدية الداخلة والخارجة بالدولار الاميركي من والى الاقتصاد اللبناني، وميزان المدفوعات هو المؤشر الاساسي لقوة الليرة اللبنانية او ضعفها، ففي حال كان هذا الميزان في حالة وفر ، يعني ذلك ان الدولار الاميركي متوفر في الاقتصاد اللبناني، وفي حال كان هذا الميزان في حالة عجز، يعني ذلك وجود طلب على الدولار الاميركي، مما يؤدي الى زيادة قيمته، وهذا يتطلب تدخل البنك المركزي لمنع تراجع قيمة الليرة.

ان ما يعزز عرض الدولار في الاقتصاد اللبناني هو تحويلات المغتربين، ومداخيل السياحة، والصادرات اللبنانية الى الخارج، وهذه التدفقات النقدية منذ عدة سنوات في حالة تراجع، فالصادرات تراجعت بسبب الازمة السورية، وتحويلات المغتربين تراجعت بسبب الازمات المالية في اكثر من دولة، كما ان مداخيل السياحة تراجعت بسبب علاقات لبنان المتوترة مع الدول الخليجية.

ان لبنان يحتاج الى ٢٠ مليار دولار سنويا لتأمين استيراد السلع التي يحتاج اليها الاقتصاد، وعرض الدولار المتوفر لا يكفي لتغطية هذه الحاجات، مما يؤدي الى العجز في ميزان المدفوعات، ويضغط على قيمة الليرة اللبنانية.

وفي العام ٢٠١٧ لجأ مصرف لبنان الى الهندسات المالية وذلك بهدف زيادة التدفقات النقدية بالعملة الاجنبية، ومعالجة العجز في ميزان المدفوعات، وزيادة الاحتياطي النقدي بالعملة الاجنبية. وبالفعل فان الهندسات المالية حققت ذلك، فميزان المدفوعات بعد ان كان في عجز تجاوز ثلاثة مليارات دولار اميركي اصبح في فائض، وبلغ الاحتياطي النقدي بالعملة الاجنبية حدود ٥٢ مليار دولار اميركي. الا انه في وقتها طرحنا تساؤلا حول من يتحمل مخاطر هذه الهندسات المالية، التي حققت ارباحا مرتفعة للمصارف؟

وفي نيسان من العام ٢٠١٨ عقد مؤتمر سيدر لدعم لبنان، والهدف منه تعزيز الاستثمارات الداخلية في البنية التحتية في لبنان، بصورة تؤدي الى زيادة التدفقات النقدية بالعملة الاجنبية الى الداخل اللبناني، مما يساهم في توازن ميزان المدفوعات وزيادة الاحتياطي النقدي بالعملة الاجنبية. وقد حصل لبنان على تعهدات دولية بمنح قروض ميسرة وهبات بلغت ١١,٨ مليار دولار اميركي، وهي مبالغ من شأنها تقوية الاقتصاد اللبناني وتعزيز وضعية الليرة اللبنانية.

الا ان تعهدات مؤتمر سيدر كانت مشروطة باجراء الحكومة اللبنانية لمجموعة من الاصلاحات التشريعية والاقتصادية والادارية. وبما ان الاصلاحات التي تقنع الدول المتعهدة لم تحصل، فان لبنان لم يحصل على المبالغ التي وعد بها.

وفي صيف العام ٢٠١٩ بدأت تتراجع قيمة الليرة اللبنانية، وتزامن ذلك مع انسداد الافق في اي دعم دولي، او ضخ سيولة نقدية في الاقتصاد اللبناني، مما ادى الى امتناع البنك المركزي عن التدخل لتثبيت سعر الصرف، فبرز سعرين للدولار الاميركي: الاول، رسمي وهو سعر التثبيت المعتمد منذ العام ١٩٩٧، وهو المعتمد حاليا في القطاع المصرفي. والثاني، سعر غير رسمي ويحدد وفقا للعرض والطلب وهو السعر لدى محلات الصيرفة. وعند حدوث الانتفاضة الشعبية في ١٧ تشرين الاول ٢٠١٩ لامس سعر الصرف غير الرسمي للدولار الاميركي ١٧٠٠ ليرة.

ان امتناع مصرف لبنان عن التدخل لاجراء تثبيت سعر الصرف يرجع الى عدم رغبته في استنزاف الاحتياط النقدي بالعملة الاجنبية لدى البنك المركزي بالكامل، وقيمة هذا الاحتياطي موضع تشكيك حيث اعلن الحاكم انه ٣٧ مليار دولار اميركي والممكن استعماله ٣٠ مليار دولار، في حين تشكك مصادر اقتصادية في هذه الارقام.

ولكي لا تتأثر السلع الاساسية بعملية ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي، فقد اصدر حاكم مصرف لبنان تعميما تعهد فيه بفتح مصرف لبنان اعتمادات بالدولار الاميركي بالسعر الرسمي لاستيراد المحروقات والدواء والقمح الى حدود ٨٥% ، والباقي يجري تأمينه من قبل المستوردين. هذا بالاضافة الى اصدار تعميم اخر يتعهد فيه مصرف لبنان بتأمين الاعتمادات بالدولار الاميركي وفقا للسعر الرسمي لشراء المستلزمات الطبية الى حدود ٥٠% من قيمتها.

ومع امتناع المصارف التجارية عن تحويل مبالغ نقدية من الودائع الى الخارج حتى ولو كانت لغايات تجارية، والسماح بتحويل مبالغ نقدية شرط ان لا تكون مودعة مسبقا، عمد التجار الى شراء حاجاتهم من الدولار من السوق الموازي وبالسعر غير الرسمي، اي سعر السوق. ويشكل الطلب من قبل التجار على شراء الدولار من اجل تحويلها الى الخارج لاستيراد السلع من اهم العوامل التي تساهم في تصاعد سعر الدولار يوما بعد يوم.

وما ذهب اليه حاكم مصرف لبنان في برنامج مارسيل غانم “صار الوقت” بان حجم التداول لدى محلات الصيرفة يقدر بعشرة بالمئة هو كلام ينافي الواقع، فهذا الامر وان كان يصح قبل الازمة، الا انه غير صحيح اثناء الازمة الواقعة حاليا، لان السوق الرسمي قاصر على ٨٥% من قيمة صفقات استيراد المحروقات والقمح والادوية، وعلى ٥٠ % من قيمة المستلزمات الطبية. اما بالنسبة للقيمة المتبقية وقيمة السلع الاخرى فيجري تأمين المبالغ بالدولار الاميركي وبصورة اساسية من محلات الصيرفة.

لذلك نلاحظ ان اسعار معظم السلع قد ارتفعت بذات نسبة ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي، ويستثنى من ذلك اسعار المحروقات والخبز والادوية. وهذا الامر يؤدي الى التضخم وتراجع القوة الشرائية لليرة اللبنانية.

هذا وتعتمد المصارف على السعر الرسمي لصرف الدولار الاميركي، وتضع سقفا من قبلها للسحب من الودائع خصوصا الودائع بالدولار الاميركي، ولكن هذه السقوف لا تؤمن الحد الادنى من حاجات العملاء، مما يحمل اصحاب الودائع بالدولار الاميركي، على السحب بالليرة اللبنانية من ودائعهم ، وفقا للسعر الرسمي، الذي يقل عن سعر السوق ويسبب ضررا بليغا لهم، خصوصا مع ارتفاع الاسعار والتضخم الحاصل.

وفي ذات الاطار يأتي كلام حاكم مصرف لبنان في برنامج صار الوقت بان المصارف غير ملزمة بالدفع بالدولار الاميركي لاصحاب الودائع بالدولار ، وانما ملزمة الدفع بالليرة اللبنانية، وهذا الكلام يخالف بصورة واضحة لاحكام القانون، وللعلاقات التعاقدية المصرفية، ولا يصح الا باصدار قانون عن مجلس النواب يلزم المصارف بذلك.

وبالتالي فان وجود سعرين للدولار هو لمصلحة المصارف، لا سيما وان المصارف لجأت قبل الازمة لتحقق عوائد اعلى، الى استعمال الودائع بالدولار الاميركي، لشراء سندات خزينة بالليرة اللبنانية، وذلك على سعر صرف ١٥١٥ للدولار الواحد، وبالتالي فان رفع سعر الصرف الرسمي عن الحدود المثبتة عليها سابقا سيلحق اضرارا كبيرة بالمصارف عند رد قيمة سندات الخزينة عند الاستحقاق.

اما عن مستقبل قيمة الليرة اللبنانية، فلا يوجد اي مؤشر حاليا يوحي بالتفاؤل، فالفجوة في ميزان المدفوعات تبلغ ٧ مليارات دولار، عدا عن غياب الثقة الناتج عن عدم استقرار الاوضاع السياسية، وعدم وجود اية بوادر بدعم مالي خارجي.
لذلك يقتضي على القوى السياسية العمل سريعا على تشكيل الحكومة، ووضع خطة اقتصادية شاملة لمعالجة الاوضاع الاقتصادية والنقدية.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

ElQarar https://www.elqarar.com

مجلة القرار® للبحوث العلمية المحكّمة
ElQarar® Journal for Refereed Scientific Research

المزيد للمؤلف

ربما يعجبك أيضاً

+ لا توجد تعليقات

أضف لك