إعداد | الدكتور لويس حبيقة:
قبل أن تتخذ قرارات مهمة على المستويات الحكومية، هنالك دائما وقائع أو تصريحات تسبقها وتشير اليها وبالتالي لا تكون هذه القرارات مفاجئة. هذا يقتل التوقعات، لكنه يريح المواطن والشركة. في الانتخابات الحرة، تأتي هذه الوقائع لتؤثر على النتائج ليس دائما في اتجاهات واضحة أو صحيحة بل يمكن معاكسة أو متناقضة. في الحروب كما يحصل في أوكرانيا وغزة، لا يمكن تجاهل تصريحات المسؤولين من كل الأطراف لأنها تؤثر حتما على مسار الأمور داخل مواقع الحربين وخارجها. تجاهل هذه الوقائع يمكن أن يؤدي الى أوضاع أسواء وأخطر. عدم التجاهل لا يعني أبدا قبولها كحقيقة، بل التنبه لها وربما الحماية من مفاعيلها. اجتماعات دول «البريكس» في جوهانسبورغ لها تأثيرات على مستوى الاقتصاد الدولي خاصة مع انضمام الدول الخمس (بعد انسحاب الأرجنتين) الى المجموعة. أما اجتماعات دول العشرين، فكانت قراراتها حكيمة مع ادخال المجموعة الأفريقية حتى مع غياب الرئيسين الروسي والصيني.
في الانتخابات التركية الأخيرة، ما الذي سبقها؟ هنالك الزلزال المدمر حيث اتهم الرئيس اردوغان وحكومته وكافة المسؤولين بالتقصير فيما يخص الوقاية والانقاذ. كانت الأوضاع الاقتصادية التركية غير مريحة قبلها، والمواطنون يتألمون بالرغم من أن النمو الحقيقي المقدر كان بحدود 3% لكنه أدنى من نمو 2021 (11,4%) و 2022 (5,5%). عانت تركيا من عجز مالي مزمن في حدود 4,5% من الناتج ومن دين عام يقارب 40% من الناتج. الحساب الجاري كان عاجزا في حدود 3% مما يشير الى أن الأوضاع لم تكن جيدة لكنها مقبولة حتى مقارنة ببعض الدول الأوروبية المجاورة. بدأ الانحدار الاقتصادي التركي عمليا في 2018 وترافق مع أزمة نقدية حادة أي سقوط الليرة مما صعب على قطاع الأعمال تسديد الديون المحررة بالدولار وبالتالي وقعت افلاسات عديدة. تعمقت الأزمة كثيرا في أيلول 2021 عندما طبقت الحكومة برنامجا يمكن وصفه بغير المنطقي. ماذا كانت عقيدة اردوغان الاقتصادية وكيف يمكن تفسيرها؟
يعتقد الرئيس اردوغان ان رفع الفوائد يؤدي الى ارتفاع مؤشر التضخم على عكس المنطق الذي يسير عليه حكام المصارف المركزية. يمكن تفسير ذلك بأن الفوائد المرتفعة تدفع قطاع الأعمال الى رفع الأسعار لتغطية التكلفة أي مجددا عكس المنطق المعتمد عالميا والذي يدرس في جميع كليات الاقتصاد. مع العهد المجدد، بدأ يحصل العكس أي فكرة تخفيض الفوائد مؤقتا مما سبب تخفيض سعر صرف الليرة وبالتالي تشجيع الصادرات وثم ارتفاع الليرة من جديد أي تضخم أدنى وارتفاع في احتياطي العملات الأجنبية في المصرف المركزي. هنالك مؤشرات تدل على أن اردوغان بدأ في تغيير سياساته الاقتصادية، وهذا ظهر من التعيينات في المراكز الحساسة أي وزارة المالية والمصرف المركزي. عاد المصرف المركزي مؤخرا الى رفع الفائدة الى حدود 45% لمواجهة التضخم مما يدل على سؤ الاستقرار الاقتصادي.
بسبب التخبط المزمن في السياسات الاقتصادية والمالية، تحاول القيادات الجديدة ايجاد المعالجات المناسبة مع التأكيد على استقلالية المصرف المركزي تحت قيادة الحاكمة التي أتت من النظام المصرفي العالمي، لكنها لم تصمد طويلا فاستقالت لأسباب شخصية وحل مكانها نائبها. مع وزير المالية، هنالك التزام بضبط الانفاق أي اعتماد أنظمة السلامة المالية حماية للاقتصاد.
من أهم الأمور توضيح السياسة النقدية عبر تحريك الفوائد في الاتجاه الذي يقنع الرأي العام والمستثمرين. احدى المشاكل الاقتصادية هي التضخم حيث بلغت النسبة 72% في سنة 2022 ومقدر 50,6% في 2023. المواطن التركي يفقر وهذا هو حال معظم سكان دول المنطقة الأوروبية \ الأسيوية ان لم يكن جميعها. أما البطالة فهي في حدود 11% وهذا مقبول اقليميا، انما الأهم هي التعويضات التي تعطى لهم واذا كانت تسمح لهم بالعيش المقبول ضمن الحد الأدنى للأجور القليل نسبيا.
هنالك أيضا مشاكل أخرى مرتبطة بالفساد الذي يتذمر منه المواطن ولا حلول. بالرغم من المساوئ التي يعيشها الأتراك أعادوا انتخاب الرئيس اردوغان وأعطوا الأكثرية لحزبه وحلفائه في الانتخابات النيابية. ما هي أسباب هذا الواقع علما أن الأحزاب المعارضة مكونة من شخصيات مهمة تضامنت فيما بينها للمنافسة. كيف يمكن تفسير فوز أردوغان وحزبه في الانتخابات الأخيرة؟
أولا، هنالك موجة شعور قومية في العديد من الدول بينها تركيا. هنالك موجات دينية في تركيا وفي معظم دول أوروبا تسمح بوصول أحزاب اليمين المتطرف الى السلطة. فالرئيس اردوغان واضح في شعوره القومي مما يجذب تجاهه شريحة كبرى من الرأي العام. بسبب الزلزال، قيل داخليا للرئيس اردوغان بأنه يمكن له تأجيل الانتخابات وكانت التقديرات تشير الى خسارته، لكنه رفض وأصر على موعد الانتخابات مما جذب أعداد مهمة من الشباب الطموح تجاهه. هنالك دائما في تركيا وفي معظم الدول من يقول أن الانتخابات كانت مزورة وغير شفافة وأن النتائج غير صحيحة وغيرها من الاتهامات التي تعودنا عليها، ومن لا يصدق فليسأل الرئيس ترامب.
في كل حال فوز اردوغان لخمس سنوات جديدة في الانتخابات الماضية كان خبرا سارا جدا للزعماء الشعبويين الذين يتعاطفون مع الرئيس التركي وحزبه، نذكر منهم رئيس الوزراء الهندي مودي والمرشح الأميركي دونالد ترامب وغيرهم ممن يستعملون الشعارات الوطنية والقومية للفوز الانتخابي. لذا لا يمكن حصر ما جرى في تركيا ضمن الحدود الجغرافية للدولة، بل أن امتداداته كبيرة وواسعة وتتعدى القارتين الأسيوية والأوروبية. تبقى التحديات كبيرة لتركيا ليس فقط في الاقتصاد وانما في محاولة الانضمام الى الوحدة الأوروبية وفي استمرار تطبيق السياسات التي تدعم الاستقرار الداخلي. تركيا دولة تاريخيا مهمة وتقع في صلب التحديات الأقليمية، وطريقة تعاملها مع الهجرة غير الشرعية تؤثر على التوازنات السكانية الأوروبية الدقيقة.
المصدر: اللواء
+ لا توجد تعليقات
أضف لك