بقلم: إيليا ج. مغناير
أصبحت أهداف إسرائيل أكثر وضوحاً بعد مرور أكثر من ستة أسابيع على عملية «طوفان الأقصى» التي وضعتْ حكومة رئيسَ الوزراء وجيشَه المتعثّر داخل مساحة جغرافية صغيرة في شمال قطاع غزة في حالة شجارٍ واتهام متبادَل عن الإخفاقات التي أصابت الكيان في صميم عقيدته ونسفت وعوداً سابقة أعطاها بنيامين نتنياهو بأنه قادر على حماية إسرائيل.
وهذه الأهداف لم تعد تتمثّل في القضاء على «حماس» وتدمير قدراتها وتحرير المحتجَزين، بل في سلب إرادة المقاومة الفلسطينية بقتْل أطفالها وعوائلها وأقربائها وتدمير المدارس والجوامع والكنائس والمستشفيات وخزانات المياه والمطاحن والمخابز وقطع المياه والكهرباء والفيول لإجبار المقاومين على الاستسلام ولقلب الرأي العام الفلسطيني في غزة ضد الحركة. إلا ان المقاومة تؤكد أنها بخير وان هذا القتل الممنهَج لن يهزمها وإن جرائم العدو تزيدها تصميماً على مقاتلة الكيان العنصري المجرم.
ليس من الصعوبة قتْل المدنيين وتدمير البنية التحتية على يد جيشٍ أتقن القتلَ ويتمتع بقوة تدميرية كبيرة، ما دامت قوى عظمى مثل الولايات المتحدة تمدّه بالقنابل التي يحتاج إليها والغطاء الدولي والإعلامي الذي يدعمه.
ولا تحتاج إسرائيل إلى قنابل ذكية لاختيار الأهداف بدقةٍ لأن تدميرها لغزة، شمالاً وجنوباً، أثبت عدم مراعاتها للمدنيين ولا للمدارس ولا لدور العبادة والمستشفيات ولا للأماكن التابعة للأمم المتحدة التي قتلت 103 من موظفيها من دون اكتراث، رغم صراخ الأمم المتحدة ومسؤوليها على كل المستويات.
وبسبب إدراك المسؤولين السياسيين والعسكريين استحالة الانتصار باحتلال شمال غزة، فقد اتبع هؤلاء سياسةَ الأرض المحروقة لإجبار السكان على المغادرة إلى الجنوب، ليس لأنه أكثر أمناً إذ لا يوجد مكان آمن في غزة، بحسب الأمم المتحدة، بل لإخلاء شمال غزة وإيجاد منطقة عازلة لبعث الطمأنينة للمستوطنين في «غلاف غزة»، هم الذين لن يعودوا إلى المستوطنات ما دام اللا يقين يسيطر و«حماس» تستطيع مهاجمتهم من جديد.
وبدأت إسرائيل – التي لا تخشى المحاسبةَ الدولية على جرائمها ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي تحتاج لقرار سياسي، وذلك بسبب الدعم الأميركي اللا محدود – بضرْب المستشفيات في شكل خاص وتطويق ما تبقى منها، وعلى رأسها مجمع الشفاء الأكبر في غزة. وقد تم التسويق له على أنه مقر للقيادة والسيطرة، ليكتشف العالم بعد احتلاله أنه مستشفى لا أكثر ولا أقل.
لكن المشكلة التي واجهت إسرائيل ان جميع «الأدلة» التي أظهرتْها في محاولة لإثبات ادعائها بأن المقاومة كانت موجودة في المستشفى ولتعلن إنتصاراً وهمياً في مجمع الشفاء، لم تقنع حتى الإسرائيليين والإعلاميين الذين رافقوا جيش الإحتلال الإسرائيلي.
إلا ان فقدان النصر غير مهمّ للجيش والحكومة. فقد منعتْ عن المستشفى الماءَ والدواءَ والفيول وحتى وصول الأطباء إلى صيدلية المستشفى كي تُظْهِرَ في الأيام اللاحقة عن «إنسانيتها» المزيّفة وإخلاء المستشفى قسرياً مع مرضاه والمصابين بداخله بعد أن توفي عدد كبير منهم وخصوصاً الأطفال الخدج بسبب نقص الأوكسيجين والفيول والغذاء والماء.
وبإجبار الأطباء والمرضى والمصابين على السير لأكثر من 15 كيلومتراً باتجاه جنوب غزة والسير بين المتعرجات ومئات الجثث الملقاة على طول الطريق، فإن إسرائيل تحكم على المئات منهم بالاعدام. إضافة إلى ذلك، فإن إمكانات المستشفيات المتبقية جنوب غزة ضعيفة جداً ولن تستطيع التعامل مع الأعداد الضخمة من المصابين والمرضى.
إذاً هو هدف الإجلاء القسري للجميع من مجمع الشفاء الذي أصبح سجناً ومقبرة للمصابين والمرضى والأطفال، لتتجه اسرائيل نحو مستشفيات أخرى ما زالت تعمل مثل مستشفى كمال عدوان والمستشفى الإندونيسي والرنتيسي والمعمداني التي أصبحت مأوى للنازحين من المخيمات المجاورة في بيت حانون وبيت لاهيا والشاطئ وتضم مصابين لا يمكن استقبالهم في الحالات الطبيعية بسبب نقص الإمكانات والخبرات قبل الحرب مثل الجراحات الدقيقة.
وما يعوق تنفيذ إسرائيل لهدفها بإحداث نكبة جديدة هو عمل المقاومة الذي يؤخّر تقدُّم جيش الاحتلال الذي يسعى لتقليص أعداد قتلاه عبر التقدم البطيء نحو الأماكن الأكثر اكتظاظاً باستخدامه الدبابات التي لا تستطيع التوغل في الأماكن الضيقة في المخيمات المكتظة.
لكن إذا استمر الغطاء الأميركي – الألماني – البريطاني لإسرائيل، فالأمر يحتاج وقتاً إضافياً لبسط إسرائيل احتلالها – من دون السيطرة بالضرورة – على شمال القطاع، لأن السيطرة تتطلب القضاء على المقاومة وهذا ما لا تستطيع إسرائيل إنجازه خلال أيام أو أسابيع أو أشهر.
لكن الوقت ليس لمصلحة إسرائيل لأن شعوب العالم تتعاطف أكثر فأكثر مع الشعب الفلسطيني وقضيته ومظلوميته. وهناك أجيال عدة حول العالم لم تسمع بفلسطين وقضيتها قبل السابع من أكتوبر. وتالياً فإن قادة العالم الغربي الذين دعموا إسرائيل في البداية، مثل فرنسا وكندا، بدأوا بتغيير لهجتهم رغم قوة اللوبي الصهيوني وسيطرته على الإعلام الغربي من دون منازع.
مما لا شك فيه أن إسرائيل قوة عضوية لأميركا، وتالياً فإنها لا تُترك وحدها لتجابه اعتراضات الشعوب ولا تلتفت للاتهامات والنداءات التي تطلقها الأمم المتحدة ولا الشعوب التي تدين وحشيتها ضد المدنيين في غزة.
ولن تتخلى المقاومة عن محتجزيها مهما اشتد الضغط وقتلت إسرائيل من عوائلها، بل هي تقاوم يومياً داخل منطقة العمليات العسكرية لتقتل أكثر من 372 ضابطاً وجندياً منذ بدء العملية البرية.
لقد دفعت الجزائر مليون قتيل لتتحرّر من فرنسا واستعمارها. ولم تدفع فلسطين سوى 150 ألف قتيل وجريح منذ 1948، عام النكبة لغاية اليوم، في سبيل إحياء قضيتها التي لولا السابع من أكتوبر لبقيت نسياً منسياً.
وتالياً فإن سقوط الدماء الفلسطينية ليس إلا مساراً طبيعياً لاستعادة الأرض والمطالبة بحق الشعب بالدفاع عن نفسه ومقاتلة العدو الذي أتقن قتل المدنيين ويَخشى مجابهة الرجال في ساحة الميدان، لتذكيره بأن فلسطين لن تكون لقمةً سائغةً وسهلة له.
المصدر: الراي الكويتية
+ لا توجد تعليقات
أضف لك