في ظلّ الوضع المالي والنقدي الحالي عمدت المصارف الى تطبيق ضوابط معينة على عملية السحوبات والتحويلات، هل تعتبر هذه الإجراءات قانونية؟
بالرغم من ان مصرف لبنان لم يعمد إلى اعلان رسمي يقضي باعتماده قيوداً على حركة رؤوس الأموال او ما يعرف بالكابيتال كونترول إلا ان الأسبوع الفائت كانت حركة المصارف تدل بشكل واضح على سلسلة من الإجراءات التي قيّدت بموجبها عملية السحوبات المباشرة من الصناديق وتحديد سقف الأموال التي يمكن الحصول عليها يوميا عبر الصراف الآلي وارسلت إلى زبائنها تعلمهم خطياً بأنها أوقفت العمل بكافة التسهيلات المصرفية إلى أجلٍ لم يحدد بشكل واضح. طبعا” هذه الإجراءات كانت قد سبقتها في الشهر الماضي أزمة تأمين الدولار والتي بدأت تشتد بشكل أكبر في اليومين الأخيرين بحيث ان عمليات التحويل التجارية الى الخارج بدت محصورة جداً لكي لا نقول شبه معدومة.
اذا عملياً، نحن امام وضع مصرفي جديد، غير مقونن حتى الآن وغير محدد بالزمان والشروط والاستثناءات، وبالتالي يخضع لسلطة المصارف الاستنسابية والتقديرية حسب الحالة المعروضة، مما يدفعنا الى القول أننا امام واقع غير قانوني
لماذا يعتبر هذا الواقع الذي نعيشه غير قانوني؟ هل يمكن تحديد اين تقع بالتحديد المخالفات التي تقوم بها المصارف؟
اذا اردنا ان نحدد بشكل موجز تلك المخالفات يمكن ان نلخصها في اطارين: عام وخاص
-الاطار العام يتعلق مباشرة بالمصرف المركزي الذي يعتبر الراعي الرسمي للقيود التي تطبقها المصارف وهو بذلك يخالف المفهوم والمبادئ والأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الحر المعتمد في لبنان، والتي تتناغم ايضاً مع روحية قانون النقد والتسليف.
كما يتعارض ذلك مع الدور الأهم للمصرف المركزي والمحدد صراحة في قانون النقد والتسليف وهو “تأمين حسن علاقة المصارف بموديعها وعملائها” حتى وان كان من ضمن صلاحياته في المادة ١٧٤ وما يليها ان يعدل ويحدد قواعد تسيير عمل المصارف بما يحفظ حالة سيولتها وملاءتها ولكن هذه الصلاحية مقيدة بشرطين، الأول هو صون حق الملكية المكرس دستوراً، والثاني الحفاظ على الإستقرار الاقتصادي والنقدي للدولة.
اما الإطار الخاص أعني به هنا العلاقة العقدية المباشرة التي تربط المودع بالمصرف والتي تخضع بطبيعتها الى شقين: الشق التنظيمي المحدد في قانون النقد والتسليف والشق العقدي الذي يحدد بحرية بين الطرفين.
المصارف اليوم تناقض أسس الوجه التنظمي للعلاقة مع الزبون ضاربة بذلك عرض الحائط أحكام قانون النقد والتسليف والتي تعتبر المودع بمثابة دائن إلى المصرف حيِث يكون هذا الاخير ملزماً برد المبلغ المودع لديه عند الطلب وذلك ضمن أصول وإجراءات معروفة مسبقا” ومحددة في العقد المبرم مع الزبون، اضف انها تتعارض مع نص المادة ١٥٦ من قانون النقد والتسليف الذي يلزم المشرع اللبناني بموجبه المؤسسة المصرفية، بشكل دائم، أن تراعي عند استعمالها للاموال التي تتلقاها من الجمهور القواعد التي تؤمن صيانة حقوقه، والمقصود هنا طبعا سحب تلك الأموال كحق مباشر، وتضيف المادة ١٥٦ انه عليها دائما ان توفق بين مدة توظيفاتها وطبيعة مواردها وهنا يعني المشرع بشكل أساسي مدة الايداعات سواء كانت قصيرة او متوسطة او طويلة او عند الطلب بالإضافة الى حاصلات القروض على اعتبارها ايضاً في المادة ١٢٢من الاموال التي يتلقاها المصرف من الجمهور.
الكابيتال كونترول المطبق في لبنان أطاح بمبدأ قانوني أساسي هو الاستقرار العقدي، وقوامه حسن تنفيذ الموجبات بين طرفي العقد أي العميل والمصرف. على ضوء المشاهدات الواقعية يتبين ان المصارف سمحت لنفسها ان توقف مفاعيل العقد المبرم وان تتمنع عن تنفيذ موجباتها العقدية، كليا او جزئياً، مع عملائها، دون سابق انذار ودون موافقة من هؤلاء، الأمر الذي سيترتب عليه حتماً نتائج قانونية وقضائية في المرحلة الّلاحقة، لا تقف عند حد إلزامها بتنفيذ بنود العقد وانما بتحميلها التعويضات الناتجة عن العطل والضرر التي تسببت به للعملاء.
اذا كان ما تقوم به المصارف غير قانوني هل يمكن استصدار تشريع ينظم هذا الوضع؟
لا شك بأننا أمام أزمة نقدية ومالية تلزم السلطات المصرفية والتشريعية اللجوء الى سلسلة تدابير في محاولة لدرء المخاطر والحؤول دون وقوعها. ولكن أي تدبير عليه ان يراعي روحية وجوهر المنظومة المصرفية بأكملها، من هنا برأيي، انه لا غنى عن تجسيد تلك التدابير بشكل واضح وشفاف قائم على اعتبارات تراعي الحفاظ على دورة اقتصادية مقبولة من جهة وتطمئن الناس على مصالحها ومدخراتها من جهة أخرى. ومن هنا ان اي اجراء لا يمكن ان يطبق بصورة فورية كما لا يمكن ان يطبق بمفعول رجعي، وذلك بهدف اعطاء فرصة معقولة للجمهور بأن يرتب أموره المالية والحياتية والمعيشية. ولكن السؤال المهم هنا، هل لبنان قادرعلى استيعاب خضة تشريعية مالية ونقدية تعيق عملية جذب استثمارات جديدة في ظل أزمة اقتصادية حادة ونسبة نمو متدنية جداً؟ لأننا كما نعلم بأن أي اجراء من هذا النوع سيترك انطباعا سلبياً لدى المجتع الدولي والاستثمارات الخارجية في وقت نحن بأمس الحاجة الى الحفاظ على الثقة بنظامنا المصرفي الذي تغنينا مطولاً بقدرته الكبيرة على تخطي الأزمات والتكيف معها.
ومن ناحية أخرى تساؤلات أخرى تفرض نفسها: هل الشعب اللبناني الذي يرزح تحت أزمة اجتماعية حادة وهو الآن ثائر على السلطة السياسية سيتقبل ويتعاون في هذا الاطار؟ ان هذه القوانين بطبيعتها الاستثنائية تفترض تضحيات من الشعب وبالتالي اعتمادها وتطبيقها يعتمد أساسا على الثقة، عدا عن انه يجب ان يسبقه مرحلة تحضيرية قائمة على مصارحة الجمهور بحقيقة الوضع، اما نحن ما زلنا نسمع، حتى الامس القريب، تطمينات بأن القطاع المصرفي هو مارد لا يقهر.
يمكن ان نفهم بأننا امام أزمة مصرفية ستؤدي الى افلاس المصارف؟
في الواقع، يمكن ان نقول ان ملامح أزمة مصرفية حادة بدأت تلوح في الأفق القريب، وما يدفعنا الى هذا القول هي سلسلة من الإشارات تتشابه الى حد كبير مع الظروف التي رصدت عشية ازمة بنك انترا سنة ١٩٦٧ وأزمة بنك المشرق، وازمات أخرى كان لها انعكاسات ضخمة على القطاع المصرفي اللبناني وعلى حقوق المودعين.
وهل تتشابه عادة الازمات المصرفية بظروفها ومفاعيلها؟
بالرغم من الاختلاف الزمني والواقعي بين الازمات المصرفية الا انه علمياً دراسة الازمات يسمح بتحديد الأسباب والمعايير والمراحل المرتبطة بفترة الازمة.
عادة تتفاعل الازمات المصرفية بفعل عامل مباشر هو نقص في السيولة لدى المصرف المعني، في تشرين الأول ١٩٦٧ استيقظ العالم المصرفي اللبناني على اندلاع اكبر أزمة في التاريخ المصرفي اللبناني. بدأت معالمها في الكواليس المصرفية قبل ذلك بأشهر، ودفعت في حينها الإدارة المسؤولة عن بنك انترا ان تبذل جهوداً استثنائية في محاولات انقاذية هدفت بشكل أساسي الى تأمين السيولة ذاتياً الا ان كل تلك المحاولات باءت بالفشل.
واذا ما أردنا ان نجري مقارنة مع الأيام الأخيرة التي سبقت انهيار انترا وما نشاهده اليوم على الساحة المصرفية، يتضح لنا بأن حالة الهلع لدى الجمهور هي دائما الحد الفاصل زمنياً بين ما تكون السلطات المصرفية تخفيه في الكواليس وبين اكتشاف العملاء لحقيقة الوضع.
قدّر معدل السحوبات في الأيام القليلة قبل وقوع بنك انترا بحوالي ١٠٠ مليون ليرة يومياً وذلك كان يعتبر رقما كبيراً في حينه. نحن اليوم لم نشهد حتى تاريخه حجم سحوبات ضخم لأن الإجراءات المعتمدة حالت دون ذلك ولكن في المقابل هذه القيود القاسية والتي طالت العمليات البسيطة والتحويلات التجارية الروتينية تنبئ بما هو خطير.
واذا عدنا الى صبيحة ٩ تشرين ١٩٦٧، رصدت حالة من الخوف عمّت لدى المودعين ترافقت مع اخبار وشائعات انتشرت بسرعة مما سبب اضطراباً في السوق المصرفي ككل، الامر الذي دفع مجلس الوزراء الى الانعقاد واعلان عطلة مصرفية لمدة ثلاثة أيام واقفال أبواب المصارف، وذلك بهدف حماية المصارف الأخرى وليس انترا الذي اعلن في تلك الجلسة توقفه عن الدفع. عند وقوع أي ازمة مصرفية كبيرة هناك ما يسمى بالارتدادات المباشرة والفورية. اذا اقفال صناديق المصارف هو أيضاً من المراحل الفاصلة في ترتيب مراحل الأزمات. واقفال المصارف الذي حصل على وقع الاحتجاجات الشعبية لم يكن ليحصل لو ان الوضع المالي والنقدي في لبنان سليم ومعافى وهو أيضا حالة لم نشهد مثيل لها في تاريخ القطاع المصرفي اللبناني.
وفي آواخر الثمانينات تعرض القطاع المصرفي مجدداً الى أزمة مصرفية كبيرة هي أزمة بنك المشرق التي كانت نتيجة انخفاض في نسبة السيولة لديه أدت الى اشتداد السحوبات بشكل اصبح معها من المستحيل الاستمرار، وعلى أثرها طُبِع آواخر الثمانينات بالشؤم على القطاع المصرفي وبلغ عدد المصارف التي تعرضت للسقوط ١٣ مصرفاً.
ولكن ما يجب الإضاءة عليه في سياق هذه المقارنة انه في حالتي انترا والمشرق لم يكن المصرف يواجه حالة ضعف في الملاءة والموجودات انما خللا حاداً في كمية الأموال النقدية المتوفرة بسبب سوء تقدير الادارة من جهة ومن جهة أخرى سياسة مصرفية مبنية على نسبة عالية من المخاطر بهدف تحقيق أرباح خيالية. وهنا أيضاً يمكن ان نؤكد بأن دور المصرف المركزي لم يكن على القدر المطلوب وقتها، ولم يؤازر المصارف المعنية بالسيولة الممكنة لتلافي الوقوع في الأزمة، بمعنى انه لم يؤمن لها الأموال الكافية وذلك يعود لأسباب مختلفة لا يمكن الآن الغوص في تفاصيلها.
وما هي الوسائل المتاحة قانوناً لحماية حقوق المودعين في حالة افلاس المصرف او توقفه عن الدفع؟
في الحقيقة ان ابرز المحطات التشريعية السارية المفعول في هذه الحالات كانت قد انبثقت مباشرة من رحم تلك الازمات وخاصة ما يعرف بقانون توقف المصارف عن الدفع او قانون انترا، إضافة الى انشاء المؤسسة الوطنية لحماية الودائع. ميّز المشرع اللبناني بموجب قانون ٢/٦٧ اي قانون توقف المصارف عن الدفع بين الإجراءات والمفاعيل التي تطبق على المصارف باعتبارها شركات مساهمة وبين نظام الإفلاس اللبناني المحدد في قانون التجارة والذي يطبق على التجار كافة باستثناء المصارف. وذلك حرصا على أهمية ودور هذا القطاع وتأثيره على الاقتصاد بصورة مباشرة.
ويمكن عرض الخصائص التي تميّز بها قانون التوقف عن الدفع بما يلي:
اعتماد مفهوم جديد للتوقف عن الدفع اكثر مرونة واقل قساوة
افساح المجال لايجاد حلول تؤمن استمرارية المؤسسة المصرفية بالرغم من تعرضها للتوقف عن الدفع
استحداث آلية خاصة لوضع المحكمة يدها على الدعوى
اتباع اجراءات محاكمة مختلفة في قضايا المصارف.
اهم ما يجب الإشارة اليه في هذا الصدد بأن اعلان توقف مصرف عن الدفع لا يعني بالمطلق تصفية حتمية لموجوداته، بالعكس المشرع اللبناني كان حريص اشد الحرص على إعطاء كافة الفرص لاعادة احياء المصرف المتعِثر عن طريق تحويل الملف الى لجنتين متتاليتين بهدف إيجاد فرصة جدية لتعويمه كمحاولة قانونية لدرء السقوط الأخير وبهذا يمكن القول بأن استعادة المصرف نشاطه بعد توقفه عن الدفع هي بمثابة حل قانوني بمفاعيل استثنائية.
ما يجب التشديد عليه من الناحية القانونية بأن المشرع اللبناني قصد من خلال قانون التوقف عن الدفع اولاً انقاذ المصرف ككيان قانوني وتفادي وقوعه في المحظور اما الدائنين أي المودعين ان حمايتهم تأتي بصورة لاحقة بعد فشل كل محاولات الإنقاذ. وبهذا حاول القانون اللبناني تفادي اقفال المصرف نهائيا وتصفيته معتبراً بذلك ان مصلحة المودعين تكون مصانة بشكل افضل وانه يكون قد ابعد شبح انهيار مصرفي عن الاقتصاد ككل.
اذا في حال التوقف عن الدفع نكون امام خيارين اما التعويم واما انهاء المصرف وتحويل حقوق المودعين على المؤسسة الوطنية لحماية الودائع؟
لا يمكن حصر انتهاء الازمات المصرفية حكماً بذلك لان التجارب التي عايشها القطاع المصرفي اختلفت بطرق معالجتها.
مثلا، استطاعت اللجنة الإدارية الثانية التي عينت على أثر توقف “يوروميد بنك” من إنقاذه وتعويمه بموجب اتفاقية عقدت مع “كريدي ليونيه فرنسا” بموجب اتفاقية عقدت بتاريخ ٢٣\١٢\١٩٩٢ صدقت عليها محكمة الإفلاس في بيروت وأعلنت حالة زوال التوقف عن الدفع بحق “يوروميد بنك” بتاريخ ٢٨/١/١٩٩٣.
وبالعودة الى الحالات التي طبقت عليها احكام قانون ٢/٦٧ يمكن إحصاء اربع حالات اعلن بموجبها توقف مصارف عن الدفع ولم تنجح محاولات انقاذهم وبالنتيجة احيل المودعين الى المؤسسة الوطنية لضمان الودائع لتحصيل أموالهم، وفي حالة بنك المشرق عمدت الدولة الى مدّه بالسيولة اللازمة وأشرفت على ادارته وأخضعته بعدها الى التصفية.
في هذا الاطار ايضاً يعتبر قانون رقم ١١٠/٩١ والمعروف بقانون “اصلاح الوضع المصرفي” من التشريعات المهمة والتي رفع المشرع بموجبها قيمة الضمانة التي توفرها المؤسسة الوطنية لضمان الودائع والى إقرار آلية جديدة للتصفية الذاتية تقوم بتخلي المصرف عن حقوقه الى مصرف لبنان مقابل مدّه بالسيولة لتغطية التزاماته. وهذا بالإضافة الى إمكانية الدمج بين مصرفين والتي طبقت في حالات تعثر كحل يلائم حقوق المودعين، مثل حالة غلوب بنك، او كابيتال تراست بنك الذي تولى توعيمه مصرف لبنان ثم عاد ودمجه مع الاعتماد اللبناني.
ولكن لا بد من كلمة نهائية،
المرحلة التي نمر بها هي من الأصعب، لأننا لسنا بصدد حالة افلاس واحدة، نحن نواجه خطورة افلاس الدولة، والارتدادات ستطال القطاع المصرفي ككل. نحن امام أزمة اقتصادية واجتماعية ومعيشية، نتيجة السياسات المالية للدولة وللأسف لم يتخذ حيالها مصرف لبنان الموقف الذي تقتضيه المصلحة العامة، بل حافظ على سياسات وهندسات مالية خاطئة تحت ذريعة الإبقاء على الكيان الاقتصادي الحر في لبنان. ولكن الظروف كانت تقتضي الجرأة وتغليب حالة الضرورة. اما الآن اعتقد بأن الحل يجب ان يكون على قدر الخطورة وقد لا تنفع الحلول اللّبنانية الصافية الامر يستدعي مساع دولية مباشرة انما حتماً بأسلوب جديد ومختلف. لذلك الحل يبدأ بإعادة بناء الثقة في منظومة الدولة اللبنانية السياسية والاقتصادية والمصرفية. على آمل ان تكون جرعة الثقة المنتظرة من الشعب ومن المجتمع المالي الدولي على قدر ما يقتضي بناء دولة جديدة بمفاهيم القانون والمؤسسسات.
* أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية – كلية الحقوق
+ لا توجد تعليقات
أضف لك