إعداد | المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب* :
مع تطور العمل المالي والمصرفي الالكتروني banking-e وتوسع دائرتھم عالمیا، بدأت جرائم جدیدة في الانتشار السریع، وھي ما تعرف بالجرائم الالكترونیة، وبدأت ھذه الجرائم تحوز على اھتمام المجتمع الدولي نظرا لإبعادھا السلبیة على العمل المصرفي والقطاعات الاقتصادیة والمالیة. وفي العادة، تقوم البنوك والمؤسسات المالیة ببذل جھود كبیرة في الحفاظ على المعلومات المتعلقة بالعملاء وخاصة المسائل المرتبطة بالحسابات المصرفیة والمعاملات المالیة نظرا لأن سریة المعلومات، من أھم الأركان التي یقوم علیھا العمل المصرفي والمالي في كل مكان. وقطعا سینزعج العمیل إذا علم أن ھناك تلاعبا فیما یتعلق بالمعلومات الخاصة بتعاملاتھ أو حساباتھ بالمصارف، وإذا استدعى الأمر ربما یلجا العمیل للقضاء
للمطالبة بتعویضات باھظة ومنازعات طویلة متعبة.
أن كشف المعلومات المتعلقة بالعملاء والتلاعب في الحسابات الخاصة بھم، وغیر ذلك مما یخص العملاء، كان یتم عبر وسائل إجرامیة ربما نسمیھا جوازا (الجرائم التقلیدیة Crimes Traditional ) مثل تزویر كشوفات الحساب وغیرھا من المستندات المصرفیة باستخدام توقیع یدوي (باستخدام الید) مزور أو تقدیم معلومات غیر صحیحة كتابة أو شفاھة بقصد إجرامي، أو التلاعب في الودائع بواسطة الموظفین أو الاحتیال Fraud أو غیر ھذا من الأفعال الإجرامیة التي تم ارتكابھا وفعلھا مادیا ( الفعل الجنائي Reus Actual ) عن سوء قصد ونیة إجرامیة (Rea Mens). والجرائم التقلیدیة المذكورة أعلاه أصبحت معلومة لإدارات البنوك والمؤسسات المالیة وسلطات التحقیق الجنائي والمحاكم الجنائیة ولقد ظلت كل الأجھزة المصرفیة والعدلیة تتعامل مع ھذه الجرائم، بشتى أنواعھا، بالیقظة والحذر الكافیین لمنع حدوثھا أو التقلیل من حدوثھا إلى اكبر حد. ومن الجدیر بالذكر أن ھذه النوعیة من الجرائم ( التقلیدیة )، ونظرا لأنھا بدأت وظلت مستمرة منذ وقت طویل، فان البنوك وغیرھا من الأجھزة المختصة أصبحت مؤھلة لمجابھتھا واكتسبت خبرة في كیفیة التعامل معھا منذ مراحل مبكرة من اكتشفھا وأثناء مراحل التحقیقات الأمنیة أو القضائیة.
ومن الملاحظ الآن أنھ ونظیر ھذا التعامل المستمر ولفترة من الزمن نستطیع القول بأنھ أصبح لدى كل الأجھزة المختصة خبرة تراكمیة Accumulated واسعة تم اكتسابھا أثناء التعامل مع ھذه الجرائم ومحاربتھا وردع مرتكبیھا، وحرى بالقول أن البنوك والمؤسسات المالبة قامت بسد كل الفراغات التي یمكن أن تؤدي إلى ارتكاب ھذه الجرائم وذلك من خلال تكثیف المراقبة المھنیة والإداریة (عبر برنامج اعرف عمیلك وأعرف عمیل عمیلك) مع الحرص في نفس الوقت علي تدریب الموظف المختص تدریبا عالیا وإصدار التعامیم والتوجیھات اللازمة التي تساعده في تنفیذ المھام الموكلة لھ… الخ.
لكن الجمیع الآن یواجھ خطرا داھما یتمثل في ظھور نوع جدید وجیل متطور من الجرائم المستحدثة التي تختلف عن الجرائم التقلیدیة المشار لھا أعلاه، وھي الجرائم التي تتم عبر الكمبیوتر والانترنت أي الجرائم الالكترونیة أو جرائم السایبر cyber crimes
إن تطور العلوم والتكنولوجیا في شتى المجالات قاد إلى ثورة تقنیة ھائلة قادت بدورھا إلى ظھور الانترنت Internet والرسائل الالكترونیة Mail-E وبیئتھا الافتراضیة cyberspace environment Virtual ، وإلي انتشار استخدام ھذه التكنولوجیا الافتراضیة في شتى مجالات العلوم والاقتصاد والاتصالات الرسمیة والشخصیة… ولقد أدى ھذا التطور التقني إلى استخدام الانترنت في الولوج إلى أعماق كل أنواع المعرفة ومصادر المعلومات وتخطي الحواجز الاجتماعیة والسیاسیة والعرقیة التي كانت تحكم تصرفات البشریة لفترة طویلة من الزمن. ویمكن أن نقول، بدون منازع ، أن طوق كل
الحواجز قد انكسر وزالت كل الحدود المعرفیة بظھور الانترنت وأصبح بمقدور أي شخص ومن أي مكان الحصول على المعلومات التي یرغبھا بمجرد الضغط على زر الجھاز وأصبح العالم الآن كما یقولون ( قریة صغیرة ) یمكن التجول في جمیع أركانھا في لحظة زمان واخذ المعلومات المطلوبة وإصدار التعلیمات أثناء ھذا التجوال. وأصبح الملایین یستخدمون الانترنت كل یوم في دراساتھم أو أعمالھم أو تجارتھم. والعدد یتزاید كل یوم لأن التعامل بالانترنت أصبح ضرورة ملحة.
ولكن ھل ھذا التطور وھذه الثورة التقنیة بدون سلبیات أو لنقل ( منغصات )؟ الإجابة بالطبع ( لا ) لأن ھناك العدید من المآخذ والسلبیات ومن أخطر ھذه السلبیات سوء استخدام ثورة المعلوماتیة Informatics والانترنت وتسخیرھا في ارتكاب بعض الجرائم المستحدثة، وما یھمنا في ھذا المجال تلك الجرائم المتعلقة بالعملیات المالیة والمصرفیة والتي تؤثر على مجمل الصناعة المالیة.
إن ھذا النوع الجدید من الجرائم في تطور مضطرد ویشكل ھاجسا كبیرا لكل الحكومات والأجھزة الأمنیة والمصرفیة والمالیة ولا بد من اتخاذ الإجراءات الكفیلة بمواجھة ھذه الجرائم العصریة التي تختلف كلیا عن الجرائم التقلیدیة، ومن الممكن، كمثال، أن نذكر بعض الخلافات بین الجرائم التقلیدیة والعصریة المعروفة ب ( الجرائم الالكترونیة ):
1- الجرائم التقلیدیة تأخذ أو ترتكب في وقت معین ومحدد وبحركات مادیة معینة مثل وقت وكیفیة ارتكاب جریمة القتل أو السرقة أو تجاوز سرعة المرور المحددة.
2- الأبعاد الإجرامیة التقلیدیة محددة ومعرفة قانونا ومحددة كجرائم وفقا للقانون في البلد أو المكان الذي أرتكبت فیھ وھذا القانون یصدر من البرلمان أو الجھات التشریعیة المختصة مثل قانون العقوبات أو قانون الشركات أو قانون المعاملات في البلد المعني وذلك وفقا لمبدأ ( لا جریمة بدون نص ).
3- مكان ارتكاب الجریمة أو كما یقولون مسرح الجریمة وجسم الجریمة delicti Corpus معروف ومحسوس مادیا مثل وجود جسد الضحیة أو آثار الجریمة في مكان ارتكابھا من دماء أو شعر أو بصمات.
4- ھناك نوع من الثقافة والعلم how-know and Culture بأن ما حدث یشكل جریمة أو مخالفة للقانون، وھذه الثقافة أو العلم تكون متوفرة للجمیع بدرجة تمكنھم من عدم ارتكاب الجریمة والمخالفة أو منع حدوثھا، لتجنب المسائلة القانونیة، والجمیع یعلم أن القتل أو النھب جریمة یعاقب علیھا القانون.
ھذه بعض السمات العامة التي تتمیز بھا الجرائم التقلیدیة (إذا حاز لنا أن نستخدم ھذا التعبیر) على عكس ھذا الوضع نجد أن جرائم السایبرCrimes – Cyber الحدیثة قلبت مفھوم الجریمة رأسا على عقب لأنھا لا تتقید بالمكان أو الزمان أو الوقت وإضافة لھذا، وعلى عكس ھذا الوضع، نجد أنھ وبالنسبة للجرائم الالكترونیة لا یتوفر حتى الآن بصفة كافیة أي نوع من الثقافة أو العلم بھذه الجرائم أو كننھا مما یجعل مجابھتھا أو التصدي لھا أمرا صعبا ومتشعبا بالغموض. ولھذا، وكحقیقة ثابتة، لا بد من التنویھ بھا وذكرھا، بان إصدار التشریعات القانونیة Legislations لتعریف الجرائم الالكترونیة الحدیثة وتحدید مداھا وعقوبتھا قد یصبح أمرا صعبا أو مستحیلا في بعض الحالات.
ولا بد من القول، أن ھناك بعض المحاولات الجادة لتعریف جرائم السایبر الالكترونیة التي تتم بواسطة الكمبیوتر والانترنت ونجد أن بعض فقھاء القانون وغیرھم من المختصین ركز، أو لنقل سلط الضوء، على تعرف أو تحدید الأفراد Individuals ولھذا تم تحدید وتعریف مرتكب الجریمة مثل الھاكرز Hackers والكراكزcracker وجواسیس الكمبیوتر وإرھابیي الكمبیوتر … وغیرھم من مرتكبي جرائم الیاقة البیضاء المتعلقة بالكمبیوتر مثل الـ pornographers ومروجي الاخلال بالآداب والفن الإباحي والصور الفاضحة… الخ. وفي نفس الوقت نحد أن البعض، في سعیھم لإیجاد التعریف القانوني، لم یركز على الأفراد وإنما على الفعل أو التصرف behavior / act الذي قام بھ الفرد كسرقة أو تزویر الممتلكات غیر المحسوسة مادیا property Intangible ، التلاعب بالبیانات واستغلالھا بطریقة غیر مشروعة، سرقة خدمات الكمبیوتر، الاحتیال، إعطاء تعلیمات غیر صحیحة، الدخول والتعدي غیر المشروع، استخدام اسم في البرید الالكتروني mail-E وتسجیلھ بغرض التضلیل … ألخ.
نخلص إلى القول أن ھذا الوضع نشأ لأنھ لا یوجد، حتى الآن، تعریف موحد وواضح لجرائم الكمبیوتر العصریة لأنھا تتغیر في كل یوم. ھذا، بالرغم من المحاولات العدیدة التي قامت بھا الدول المتقدمة وعلى رأسھا أمریكا وھیئات الأمم المتحدة ومجموعة الدول الأوروبیة، وھذا من دون شك سیحتاج إلى زمن طویل وتكاتف دولي لأن ھذه الجرائم كما ذكرنا لا تعرف الحدود الجغرافیة أو السیاسیة وتدخل لأي مكان بدون تأشیرة دخول وبدون جواز مختوم.
إن النقطة الھامة في نظرنا والتي نرى أن تؤخذ في الاعتبار عند تعریف الجرائم الالكترونیة التي تتم بواسطة الكمبیوتر والانترنت فانھ یجب أن یتم التمییز وبوضوح تام، بین الاستخدام غیر الصحیح للأجھزة أو الاستخدام بإھمال negligence أو عدم درایة بواسطة المختصین أو غیرھم من جھة وبین الاستخدام الموجھ والمقترن بسوء نیة وتفكیر إجرامي من جھة أخرى. أي أن المحك یجب أن یكون سوء النیة والقصد الجنائي لأنھ لا یعقل أن یجرم الشخص الذي قام بتعدیل بیانات ھامة في الجھاز بحسن نیة بدون قصد جنائي لمجرد أنھ قام بتعدیل البیانات لأن ھذا التعدیل أو التلاعب یجب أن یكون قد تم عن قصد إجرامي والغرض منھ ارتكاب جریمة. وھذا بالطبع، من أساسیات القانون الجنائي، حیث یجب توفر الفعل المادي والنیة الإجرامیة واقترانھما بالسببیة. اعتقد إذا تم التمییز بین الحالتین فان الوضع سیكون الأمثل (ولا ضرر ولا ضرار).
بالنسبة للبنوك والمؤسسات المالیة، فان أھم الجرائم الالكترونیة تتمثل في ارتكاب جریمة التعدي trespass بواسطة الأجھزة، أي انتھاك حرمة الآخرین دون مسوغ أو مبرر قانوني، وھذا یتم عن طریق أفراد یتمتعون بخبرة طویلة في التعامل مع ھذه الأجھزة المتطورة ولا بد من توفیر التدریب الكافي للموظفین لمواجھة ھذه الجرائم التي تدخل في خفة تامة ودون أن یشعر بھا أحد. والمجابھة ھنا تتطلب وجود الأدمغة النظیفة والمؤھلة تأھیلا تقنیا عالیا. وكما نعلم، ارتكاب جریمة التعدي، یتم في الغالب لأسباب شخصیة أو سیاسیة أو اقتصادیة وتقوم النفوس الإجرامیة بالتعدي على البنوك أو غیرھا، للحصول على بعض المعلومات بقصد نشرھا أو كشفھا لجھات معینة أو للجمھور وذلك لأسباب سیاسیة بقصد إحراج الحكومات مثلا أو بغرض الابتزاز وطلب الفدیة. وھناك من یتعدى بغرض تقدیم المعلومات المصرفیة السریة لجھات منافسة أو بغرض الجاسوسیة أو بغرض الإرھاب الاقتصادي أو السیاسي…الخ، والتعدي یتم بإدخال فیروسات في الجھاز بغرض استخدامھا عند الحاجة لأي سبب في الحال أو في المستقبل المنظور. ونلاحظ أن ھذه الجریمة انتشرت في الآونة الأخیرة وتعرضت لھا البنوك والمؤسسات المالیة، ومن الممكن أن تؤثر على العملیات التجاریة والمصرفیة. ولذا لا بد من اخذ الحیطة مع ضرورة تحصین الأبواب التي یدخل منھا التعدي بمضادات الفیروسات “Antivirus “وشتى السبل الدفاعیة ویجب على كل الجھات المستھدفة إلا تبخل بالمال في مواجھة الفیروسات التي ترتكب ھذا التعدي.
إن السرقة قد تتمثل في الحصول بأي وسیلة على نسخة من مطبوعات أو بیانات أو صور خاصة بشخص مھم أو سرقتھا الكترونیا دون علمھ حیث یتم نسخھا وتداولھا أو التلاعب بھا بطریقة تخالف القانون دون علم صاحبھا. وفي مثل ھذه الحالة ربما یكون بیع الصورة في بلد ویتم دفع الحساب بواسطة بنك أو شركات تحویل الأموال في بلد أخرى. وعند اكتشاف الجریمة یكون المبلغ قد تم أخذه من الحساب دون ترك أي اثر. ولقد امتدت السرقة الالكترونیة وظھرت حالات عدیدة تشمل التلاعب في كروت الائتمان أو الفیزا cards Visa or cards Credit التي تم سرقتھا واستخدامھا للشراء بواسطة الانترنت، حیث تم إصدار تعلیمات للبنوك عبر الانترنت، وھنا لا بد أن نقول أن صیرفة الانترنت-E Banking والتجارة الالكترونیة Commerce-E المرتبطة بھا قد تكون مدخلا سھلا أو جذابا یتم عبره ارتكاب مختلف أنواع الجرائم الالكترونیة. أن ھذا الجیل من الجرائم العصریة، من دون شك، قد یشكل وضعا جدیدا حساسا لا بد من متابعتھ بغرض تحدیده ومجابھتھ ولكن مازالت المجھودات، في نظرنا، متواضعة لتحدید ھذه الجرائم وتعریفھا
ومن ثم مكافحتھا والقضاء علیھا.
في الختام نقول أن المعاملات الالكترونیة، شاملة صیرفة الانترنت banking-E وما یرتبط بھا من التجارة الالكترونیة commerce-E، تمثل طفرة حقیقیة في العملیات المصرفیة والتجاریة ولكن ھذه الطفرة لا تخلو من المحاذیر وأخطرھا الجرائم الالكترونیة المصاحبة للطفرة التكنولوجیة. ویحضرني في ھذا المجال ما سبف أن قالتھ وزیرة العدل الأمریكیة السابقة أن من أھم التحدیات القانونیة التي تواجھ البشریة الآن، وأمریكا بصفة خاصة، ھي الجرائم الالكترونیة الحدیثة التي لا تعرف الحدود أو الضوابط القانونیة المتبعة منذ زمن بعید Rules Conventional، ولا بد من تكاتف الجھود لتحدید ھذه الجرائم العصریة وتعریفھا الواضح مع تحدید مداھا حتى تتم مواجھتھا وفقا للتشریعات القانونیة الملائمة التي یتم إصدارھا لھذا الغرض، واعتقد أن الجمیع یتفق مع ما ذھبت إلیھ.
التطورات التقنیة تزداد وتتوالد في كل یوم بل وفي كل لحظة، ومن ھذا الواقع فأن العملیات المصرفیة والمالیة الالكترونیة أصبحت واقعا معاشا یثبت وجوده وفعالیتھ في كل یوم ولذا یجب بذل كل الجھود لمتابعة كل التطورات التي تحدث. وفي نفس الوقت علینا جمیعا، وھذا یشمل كل من یستخدم الأجھزة players and Users أو من ینتج البرامج experts Software أو غیرھم، إتباع أقصى درجات الحذر في مواجھة ھذه الجرائم ومن یرتكبھا. وننبھ انھ یجب على البنوك والمؤسسات المالیة، أن تكون مستعدة للمقارعة بنفس الأسلحة التقنیة التي یتم استخدامھا في ارتكاب الجرائم الالكترونیة ضدھا أو ضد العملاء، وھذا بالطبع یحتاج لبعض الوقت ولكن لا بد من بدایة المشوار بحزم مع ضرورة السیر في الاتجاه الصحیح للوصول للھدف.
* بروفيسور القانون الجامعة الامريكية | المؤسس والمدير التنفيذي ع | د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م البحرين \ دبي
+ لا توجد تعليقات
أضف لك