أعداد/ الدكتور المحامي هيثم عزُّو*:
يسلِّط الاعلام في الآونة الأخيرة على مسألة إمكانية قيام رئيس الجمهورية في اليوم الأخير من أجل ولايته الدستورية بتوقيع مرسوم قبول استقالة الحكومة، في محاولة منه للضغط على الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة وذلكَ من أجل الاستجابة لمطالبه في عملية تسمية الأسماء وتوزيع الحقائب الوزارية.
والسؤال الذي يطرح على بساط البحث الدستوري هو معرفة ما اذا كان توقيع رئيس الجمهورية لمرسوم قبول استقالة الحكومة من شأنه أن يغّل يدها في تصريف الأعمال ويجهض بالتالي وجودها الدستوري بشكل كلي دون أن يكون ثمَّةَ وجود لحكومة بديلة عنها في الحياة السياسية.
وللإجابة على هذه الإشكالية، سوف نقسِّم البحث الى القسمين التاليين:
أولاً- في ولادة الحكومة العتيدة واجهاض الحكومة القديمة:
يتوجب على رئيس الجمهورية بعد نضوج التشكيلة النهائية للحكومة المزمع تأليفها -المُتفق على صيغتها مع الرئيس المكلّف بذلك من مجلس النواب بناءً على استشارات نيابية ملزمة- إصدار ثلاثة مراسيم (بالتزامن) مع بعضها البعض:
- المرسوم الأول: هو مرسوم قبول استقالة الحكومة السابقة التي كانت تُصرِّف الأعمال واعتبارها مستقيلة حكماً ويوقِّع وحدهُ منفرداً على هذا المرسوم سنداً لأحكام البند رقم )5( من المادة 53 من الدستور.
- المرسوم الثاني: هو مرسوم تسمیة الرئيس المكلّف كرئیسٍ لمجلس الوزراء الذي تمّ تأليفه ويوقِّع وحده منفرداً على هذا المرسوم سنداً لأحكام البند رقم )4( من المادة 53 من الدستور (ومنذ هذه اللحظة تنقلب صفة الرئيس المكلّف الى رئيساً لمجلس الوزراء، باعتبار أنهُ قبل ذلك لا يكون المجلس المذكور مؤلفاً ومُبصراً النور).
- المرسوم الثالث: هو مرسوم تشكيل الحكومة ويقتضي لصحتِّه أن يُوقِّع عليهِ حُكماً معهُ رئيس مجلس الوزراء وذلك سنداً لأحكام البند رقم )4( من المادة 53 والبند رقم )2( من المادة 64 من الدستور المعطوفتين على بعضهما البعض للتلازم.
وفور توقيع هذه المراسيم تصبح الحكومة العتيدة المؤلّفة بمرسوم انشائي لها بمثابة الجنين الذي مازال بحاجة ليتحوَّل الى كيانه الدستوري الطبيعي من أجل ممارسة مهامه بصورة كاملة الصلاحيات الى ثقة النواب مُمثلي الشعب، اذ يتوجب على رئيس تلك الحكومة اخطار رئيس مجلس النواب بتأليفها لكي يقوم هذا الأخير بتوجيه دعوة الى جلسة للهيئة العامة لمجلس النواب تكون مُخصَّصة لتلك الغاية المشار اليها، بحيثُ تَمثُّل الحكومة المُؤلفة أمام هذه الهيئة البرلمانية لتُعلن عبر رئيسها بيانها الوزاري والذي يطلب ثقة المجلس بها لينتهي بذلك مسار عملية تشكيلها وذلك بعدما ينهي النواب جلسة مناقشة البيان الوزاري للحكومة ويشترط فيها أن تتقدم ببيانها تحت طائلة اعتبارها بحكم المستقيلة خلال مهلة الاسقاط الدستورية المحددة بثلاثين يوماً, اذ تنص المادة 64 من الدستور أنهُ “على الحكومة أن تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيِّل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها ولا يحق لها أن تُمارس صلاحياتها قبل نيِّلها الثقة “إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”.
ثانياً- في لحظة انعدام صلاحيات الحكومة المستقيلة وحلول محلها دستورياً الحكومة الجديدة:
من المُسلَّم بهِ منطقاً وعِلماً أنهُ حتَّى تشكيل حكومة جديدة وصدور مرسوم في هذا الشأن، فإن الحكومة المستقيلة السابقة تواظب على القيام بوظائفها في تصريف الأعمال بصلاحيات ضيقة تطبيقاً لمبدأ استمرارية سير المرافق العامة ولا يمكن دستورياً كفّ يدها عن ذلك الاَّ بعد صدور مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة والذي يرافقه عادةً بالتوازي مرسوم اعلان اعتبارها مستقيلة.
ولكن هل أنَّ اصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة من رئيس الجمهورية -دون اصدار مرسوم تشكيل حكومة جديدة- يفقدها سند وجودها الدستوري كحكومة تصريف اعمال ويصبح بالتالي محظراً عليها منذ تلك اللحظة من الشروع بأيّ عمل مهما كانت ماهيتهُ ونوعهُ ولو على سبيل تصريف الأعمال؟
الجواب بالنفي وذلكَ لأنَّ مرسوم قبول استقالتها هو مجرّد مرسوم “اعلاني وليس انشائي” لحالتها الدستورية كحكومة مستقيلة، باعتبار أنَّ الدستور كان قد نصّ في المادة 69 منه على ست حالات محددة على سبيل الحصر تصبح بمقتضاها مستقيلة بصورة حكمية، دون أن يكون لمرسوم اعلان قبولها مستقيلة أي أثر على صلاحيتها في استمرارية تصريفها للأعمال وذلك لكونه يعلن فقط عن طبيعتها الدستورية كحكومة مستقيلة في الوقت الذي اعتبرها فيه أصلاً النص الدستوري مستقيلة بمجرد وجودها في احدى الحلات المحددة فيه وبالتالي فأنَّ توقيع رئيس الجمهورية لمرسوم قبول استقالتها -الواقعة أصلاً بصورة حكمية دستورياً- ليس من شأنه أن يغيّر شيئاً في كيانها الدستوري ولا في اجهاض صلاحياتها الخاصة بتصريف الأعمال لاستمرارية عمل المرافق العامة وخاصةً أنَّ منعها من ممارسة تلك الصلاحية دون وجود بديل عنها يتنافى مع مبدأ دستوري عام وهو مبدأ “عدم جواز الفراغ في المؤسسات الدستورية“.
والحقيقة أنَّ الحكومة المستقيلة تفقد وجودها الدستوري والعملي بصورة كلية ليس منذ لحظة اعلان قبول استقالتها -لكونه تحصيل حاصل كما أسلفنا- وانّما منذ لحظة توقيع مرسوم تشكيل الحكومة العتيدة التي تخلفها، حيثُ يحظّر حينها فقط عليها اصدار أي قرار أو توقيع أي تصرف لعلّة نشأة وولادة حكومة جديدة تكون قبل منحها الثقة بمثابة حكومة تصريف أعمال محل القديمة والتي تُعتَبَر كذلك الأمر أيضاً في حالة عدم التقدُّم ببيانها الوزاري لمجلس النواب ضمن المهلة الدستورية المحددة بثلاثين يوماً أو لحجب الثقة عنها بالجلسة التشريعية المُخصصة لهذا الأمر لكونها تُصبح في هذه الحالة بمثابة الحكومة المُعتَبَرة بحكم المستقيلة. مع الإشارة، بأن ما يُبرِّر كفّ يد الحكومة المستقيلة عن متابعة تصريف الأعمال بمجرد صدور مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة هو الحؤول دون وجود حكومتين بهيئتيّن مختلفتيّن في الدولة: سابقة أصبحت مستقيلة لتوافر أحد حالات اعتبارها مستقيلة سنداً للمادة 69 من الدستور وجديدة أصبحت قائمة لتوافر مرسوم تشكيلها سنداً للمادة 64 من الدستور ولكن لها قبل منحها الثقة النيابية ذات قيمة الحكومة المستقيلة من الناحية الدستورية طالما لا تسطيع مزاولة صلاحیاتها إلاَّ بالمعنى الضیِّق لتصریف الأعمال على ما نصّت عليه المادة المذكورة في البند رقم )2( منها ؛ بمعنى أنها تُعتَبَر قبل حصولها على هذه الثقة بمثابة حكومة تصريف أعمال ذات الصلاحيات الناقصة الى أن تنال الشرعية البرلمانية من ممثلي الأمّة والتي تستمدها من ثقتهم في جلسة مُخصصة لهذه الغاية، لتنقلب حينئذٍ الى حكومة عادية بكامل الصلاحيات الدستورية.
أمّا في حال لم تنل هذه الثقة -ولأي سبب كان- استمرت بالصفة التي هي عليها كحكومة تصريف أعمال الى حين تشكيل نظيراً لها بناءً على عملية دستورية جديدة في هذا الشأن.
وعليه، أنَّ الحكومة المستقيلة لا ينتهي دورها كلياً من المشهد السياسي والدستوري الاَّ مع اصدار مرسوم تشكيل الحكومة التي تخلفها في مركزها وصلاحياتها ولا يكون بالتالي لتوقيع رئيس الجمهورية لمرسوم قبول استقالتها الحاصلة دستورياً -دون توقيع مرسوم قبول تأليف حكومة جديدة محلّها- أي أثر على كيانها الدستوري أو على صلاحياتها القاصرة على تصريف الأعمال بالمفهوم الضيّق سواء تصريف الأعمال الخاصة بها أو الخاصة برئيس الجمهورية التي تناط دستورياً صلاحياته وكالةً بها في الشغور في موقع الرئاسة ولا حتّى على حقها في ممارسة أعمال تصرفية اذا ما اقتضى الأمر منها مواجهة ظروف استثنائية طارئة تتعلق بضرورات الأمن القومي والانتظام العام وخاصةً أنَّ ذلك يتماشى مع مبدأ “الضرورات تبيح المحظورات على قدَرِها”.
* محام ومحاضر في الجامعة اللبنانية
+ لا توجد تعليقات
أضف لك