إعداد | المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب* :
بدأت الجريمة، بكل أسف، منذ بداية الخليقة حيث أقتتل الأخوة وأعتركا وكان أحدهما الضحية المقتولة. ومن علم الاجرام “كريمنولوجي” اتضح أن جينات الجريمة موجودة في كل انسان وبدرجات مختلفة من شخص لآخر، ولكن الغالبية تتغلب عليها أو لا ترتكب جرائم تصل لدرجة أنها تكون مضرة بالآخرين، وحمانا الله وحماكم. والجريمة كانت تقليدية وفي الغالب تنحصر في القتل والأذي الجسدي والمشاجرة والسرقة والنهب والسلب والغش والتلف والتزوير والتزييق وغيره من الجرائم المعروفة الموصوفة المحددة في القانون والجميع من العامة يعلم بها بل ويعرف من يرتكبها ومتي وكيف ولماذا؟ ومع مرور الزمن تبدلت الأوضاع، وتغيرت الجريمة وتحورت وتعددت لدرجة ان حصرها صار أمرا صعبا بل تعريفها قانونا قد يكون مستحيلا، واصبح العالم ملئء بالجرائم ومرتكبيها واصبح الأمن والأمان من الأمنيات الصعبة المنال وليس هناك قلاع مشيدة نلجأ اليها لتحمينا من الجريمة وأصحابها.
أصبحت الجرائم الآن غير تقليدية بل حديثة ومعظمها بسبب وسائل التقنيات المتقدمة التي نتشدق بها صباح مساء. وفي كل يوم نتعرض جميعنا للدغات الجرائم السبرانية الالكترونية، وليس لنا عاصم منها لأنها الطوفان. وهناك نوع من الجرائم الحديثة التي تتم بصورة تقليدية وتقنية معا ويستفيد المجرم من مثل هذا الوضع ويستغله حسب الظروف لتحقيق مآربه. ومن هذه النوعية نذكر، غسل الأموال. وبصفة عامة فان جريمة “غسل الأموال” تعتبر من الجرائم الحديثة التي ظهرت وانتشرت في الآونة الأخيرة عبر فئات معينة أغلبهم من مرتكبي الاجرام الذين يعرفون جوازا بمجرمي “الياقة البيضاء” أو عبر منظمات “الاجرام الجماعي والكارتيلات الاجرامية” أو مستخدمي “الانترنت الأسود”. وهنا تتعدد الأشكال والطرق والجريمة واحدة تنخر في اقتصاد الدول وتهدد النمو الآمن والرفاهية للمجتمعات والأفراد دون فرز.
ومع تطور الزمن وتطور الجريمة وآثارها السلبية المدمرة، كان لا بد من التحرك، وتطورت التشريعات التي تكافح هذه الجريمة الوبائية التي تدخل كل دولة دون استئذان لتنفيذ مراميها لغسل المتحصلات “القذرة” وتلويث الأجواء في كل الاتجاهات ومن حواليها. وكلما ازدهرت الجريمة وانتشي المجرمون بنتائجها كلما زادت وتعمقت آثارها السلبية في المجتمع مما يؤدي بالتالي الي صعوبة اجتثاث وجودها لأنها تجذرت وتعمقت وانتشرت في كل الأطراف وعمت كل الآفاق والربوع. وفي بداية الأمر وعند ظهور هذه الجريمة الخطيرة، كانت التشريعات الخاصة بمكافحة جريمة غسل الأموال وتوابعها خاصة تمويل الارهاب، تقوم بتحديد خاص لتلك الجرائم التي يأتي من صلبها “المتحصلات” المالية المخالفة للقانون وغير الشرعية. ومن هذا التحديد التشريعي، فان جريمة غسل الأموال كانت لا تتم أو تنشأ الا بعد ارتكاب تلك الجرائم التي يحصرها ويحددها التشريع. وبسبب هذا النمط الفكري ظلت هذه التشريعات تتباري في ذكر الجرائم التي تعتبر “المتحصلات” الناتجة منها “قذرة” وغير شرعية ومخالفة للقانون، وبالتالي فان العمل علي “غسلها” وتنظيفها لنقلها لمرحلة الشرعية يعتبر جريمة “غسل أموال”. وبدون ذكر للتشريعات التي تحصر الجرائم التي تأتي منها “المتحصلات” الاجرامية، نشير الي أن بعض الأنظمة والقوانين الخاصة كانت تنص في أحكامها ويتم تصنف وتحديد الجرائم التي تشكل متحصلاتها جريمة غسل الأموال وكانت هذه الجرائم، في بداية الأمر، لا تتعدي عشرة (10) أنواع من الجرائم. ولكن في الفترة الأخيرة وصل التصنيف الي خمسة وعشرين (25) نوعا من الجرائم التي تعتبر متحصلاتها مصدرا لغسل الأموال. ومن أبرز هذه الجرائم، والتي تعتبر مصادر جديدة وغير تقليدية، نذكر تقليد السلع، التستر التجاري، الغش في الأسعار، التهرب الجمركي والضريبي، وغيره من الجرائم المتعلقة بالأنشطة التجارية كالغش في الأصناف والأوزان والأنواع، الرشوة، التزييف، التزوير، القرصنة والابتزاز، الاختطاف وحجز الرهائن، الدعارة والرق الأبيض وممارسة الفجور والاستغلال الجنسي، السطو المسلح والسلب، النصب والاحتيال، جرائم البيئة، اختلاس الأموال العامة والخاصة، السرقة، ممارسة الوساطة في أعمال الأوراق المالية دون ترخيص أو الاهمال في أعمال الوساطة في عدم التبليغ عن العمليات المشبوهة لغسل الأموال، مزاولة الأعمال المصرفية بطريقة غير مشروعة أو الاهمال في التبليغ عن العمليات المشبوهة لغسل الأموال، تمويل الإرهاب بكافة أشكاله، تهريب الأسلحة والذخائر والمتفجرات أو تصنيعها أو الاتجار بها، تهريب الخمور والمسكرات أو تصنيعها أو المتاجرة بها أو ترويجها… بل إن التبرع في صندوق التبرعات ووضع “الفكة المعدنية” المتبقية من حساب السلع التي يشتريها المستهلكون من متاجر المواد الغذائية وغيرها تندرج ضمن مؤشرات الشبهة لغسل الأموال، وهكذا توسع التشريع وأيضا سيتوسع أكثر وأكثر في المستقبل، اذا ظللنا علي هذا النمط ولن نستطيع النوم لأن الوضع سيكون له شأن مع كل يوم جديد ويصبح التشريع جزء من التاريخ، ليس الا…
ولقد سار علي هذا النهج الكثير من الدول التي أصبحت تتسارع مع الزمن في تعديل تشريعاتها من حين لآخر لزيادة “قائمة” جرائم جديدة تعتبر متحصلاتها من جرائم غسل الأموال. ويتم زيادة قوائم الجرائم، لأنه بدون هذه الجرائم واثباتها لا يمكن محاربة مجرمي الجريمة أو غاسلي الأموال لعدم وجود الجريمة في الأساس وبالتالي لا توجد متحصلات قذرة وغير مشروعة وبالتالي لا يوجد غسل أموال، أو حتي لو وجد غسل الأموال فانه لا يعاقب لأن جريمته غير مذكورة في التشريع، “ولا جريمة بدون نص”. ولكن، وكما يبدو، فان مثل هذا السباق المحموم لتوسيع قاعدة الجرائم سيستمر الي ما لا نهاية لأن هذا المجرم الخاص في كل يوم سيكتشف سبلا وطرقا جديدة لارتكاب جريمة غسل الأموال مع متعة التلذذ في تحويل الأموال “القذرة” الي أموال نظيفة “شرعية” تدور في دائرة الاقتصاد الشرعي وعلي رؤوس الأشهاد. ولهذا، بدأت بل جنحت العديد من التشريعات في الآونة الأخيرة، نحو التوجه الي عدم ذكر أو حصر الجرائم التي تشكل متحصلاتها جريمة غسل الأموال. وبمقتضي هذا التوجه الحديث للتشريعات، الذي تبنته في البداية المحاكم الانجليزية ووجهت باتباعه، ستكون مكافحة غسل الأموال أكثر فعالية ولا تحدها أي حدود لابتعادها عن حصر “قائمة” معينة للجرائم. ولتحقيق هذا التوجه، فان تشريعات مكافحة غسل الأموال يجب ألا تدخل في تحديد وذكر تفاصيل انواع الجرائم التي تعتبر متحصلاتها تشكل جريمة غسل الأموال. ولهذا يكتفي بالنص، أن متحصلات أي جريمة، ومهما كانت الجريمة، فإنها تعتبر متحصلات جريمة غسل أموال. وبهذه الكيفية الحديثة فان متحصلات أي جريمة وبدون حصر أو “قوائم جاهزة” تعتبر، ومهما كانت، تشكل جريمة غسل أموال خاصة عندما يبدأ المجرم تنظيفها عبر أي من المراحل الأساسية لغسل الأموال والتي تتطور في العادة من مرحلة “الإحلال” عبر الايداع في البنوك مثلا أو شراء الأسهم والشركات والعقارات واليخوت والذهب والمجوهرات والأناتيك، الي مرحلة “التغطية” والتمويه ثم في نهاية المطاف الي مرحلة “الدمج” والاندماج في النظام الاقتصادي المالي النظيف الشرعي. وبين ليلة وضحاها تتحول النقود القذرة والمتحصلات الاجرامية الي نقود نظيفة ومتحصلات قانونية شرعية، وكلنا نعشق جمعها والتعامل معها وبها وأصلها أتى من جرائم قذرة محرمة قانونا وشرعا.. وفي اعتقادنا، انه وباتباع هذا التوسع في التشريع فان متحصلات كل الجرائم ومهما كان نوعها أو اصلها أو فصلها تقع تحت طائلة المسائلة القانونية عن جريمة غسل الأموال. وباتباع هذا الأسلوب، لا يمكن لأي غاسل للأموال أن يهرب بجريرته فقط لأن الجريمة التي ارتكبها ليست من ضمن قائمة الجرائم “الجاهزة – ردي ميد” التي تعامل متحصلاتها كجريمة غسل أموال.. ومن شمولية التشريع وعدم تحديده للجرائم سيتم احكام وتوسيع المكافحة في مواجهة جريمة غسل الأموال ومرتكبيها، وهذا قطعا سيؤدي الي انكماشها حتي الضمور والهلاك ولو بعد حين.. وهذا في نظري، هو عين الهدف المقصود لتفعيل وتوسيع المكافحة حتي الاجتثاث التام. ولعمري، هذا طموح ممكن وتفاؤل مشروع، ونأمل أن يتم اتباعه في كل الدول لأن هذه الجريمة تهدد العالم في كل مكان وفي كل وقت وكل زمان، ولذا، وكرد فعل طبيعي فان توسيع مواعين المكافحة أمر ضروري بل حتمي.
* بروفيسور القانون الجامعة الامريكية البحرين | المؤسس والمدير التنفيذي ع | د. عبد القادر ورسمه للاستشارات ذ.م.م البحرين \ دبي
+ لا توجد تعليقات
أضف لك